لقد أخبرنا الله تعالى أن الصراع والعداوة بين حزب الحق وحزب الباطل باقيةٌ ما بقي أحد الحزبين قال تعالى (لتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) المائدة 82 وقال تعالى : (و يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ﴾ البقرة: 217
بل إنه سبحانه أخبر أن المدافعة بين الحق والباطل سنة كونية لازمة للحياة فقال سبحانه : (وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ ﴾ البقرة ٢٥١ وقال صلى الله عليه وسلم ” الجهاد ماضٍ فى أمتي إلى يوم القيامة ” وعلى هذا فالصراع والعداوة بين الحق والباطل قدَريةٌ حتميةٌ كونية لازمة , لا يمكن إبطالها واستبدلها بالسلام والوئام والصلح , وعلى هذا تعتبر المناداة بالصلح الدائم مع الكفار معصيةً لأوامر الله وتفريطاً فيها
من هنا نسأل من يُجيز التطبيع مع العدو الصهيوني ويسوّي بينه وبين الصلح في عهد النبوة :
هل صالح النبي صلى الله عليه وسلم الكفار على إلغاء الجهاد ؟
هل صالحهم على تمكينهم من أراضٍ إسلامية اغتصبوها ؟
هل صالحهم على سيطرتهم على رقاب المسلمين ؟
هاتوا دليلاً واحداً على ذلك , وكيف خاض النبي كل معاركه مع الكفار ولم يكن في أيّ معركة متوازياً في القُدُرات العسكرية معهم ؟
إن من تأمل الإجابة على هذه الأسئلة يدرك يقيناً شناعة ما يسمى بالصلح والتطبيع مع اليهود ومضادتِه الصريحة للإسلام
إن الاستدلال بتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود على مشروعية التطبيع مع الكيان الصهيوني استدلالٌ لا يستقيم , لأن اليهود في فلسطين محتلون محاربون لا يرقبون في صغيرٍ ولا كبيرٍ إلاً ولا ذمةً , بخلاف من كان النبي يتعامل معهم لم يكونوا محتلين لبلاد المسلمين ؛ وإنما معاهَدون , سواء كان ذلك بصلحٍ مؤقتً ينتهي بانتهاء وقته أو صلح مطلقٍ ينتهي متى أراد المسلمون إنهاءه بشرط إعلام المصالَحين بذلك , وإما أنهم صاروا رعايا الدولة الإسلامية بدخولهم في عقد الذمة كما في صلح نجران وقصة خيبر فمنها ما فُتح عُنوةً بالقوة العسكرية ومنها ما فُتح صُلحاً وعُلّق فيه بقاؤُهم في خيبر بحاجة المسلمين
ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم عند موته بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب
ورغم ذلك فإننا سنستعرض بالتفصيل أدلة المجيزين للصلح مع الكفار من يهود ونصارى ومشركين , فلقد استدلوا
أولاً : بصلح النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر
( الرد ) أن خيبر أُخذت عنوةً بالسيف ولم تُفتح صلحاً وأصبحت أرضها غنيمةً وأهلها سبايا , وكان منهم صفية رضي الله عنها , وقد أبقاهم صلى الله عليه وسلم فيها بعد أن ملَكها المسلمون بالفتح ليزرعوها للمسلمين بجزءٍ من ثمارها , ثم إنه صلحٌ مع الكفار على أرض بأيديهم أصلاً وليس على أرضٍ اغتصبها الكفار من المسلمين
ثانياً : استدلوا بحوادث وادَع َفيها النبي قبائل من العرب في أزمنة مختلفة
( الرد ) أ-هذه الموادعات كانت محدّدةً مقدرةً ولم تكن مطلقةً ولا دائمة مثل صلح الحديبيبة
ب-هذه الموادعات كانت إقراراً للكفار في أرضهم ؛ وليست إقرارهم على ديار أخذوها من المسلمين
ثالثاً : الاستدلال بقوله تعالى ( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ الأنفال: 61
( الرد ) أكملوا الآيات ! تجدوا أن المخادع الخائن في العهد لا يُصالَح ؛ بل يُحرَض المسلمون على قتاله قال تعالى (يا أيها النبي حرض يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ) الأنفال: 65 ثم قال بعدها ( وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ الأنفال: 62 فكيف نستدل بأول الآيات ونترك آخرها ؟
ويدل على هذا أيضاً مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شأن المعاهَدين (فمَا ٱسْتَقَٰمُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ ) كما هو حال اليهود الخائنين فكيف نصالحهم ؟ مع أن القضية في حقيقتها تطبيع وليس صلحاً
ب-لا خلاف في أن العدو إذا جنح للسلم فإنه ينبغي لنا نحن أن نجنح لها متوكلين على الله , ولكن تطبيق هذا على واقع اليهود معنا غير صحيح ؛ لأن اليهود الغاصبين لم يجنحوا للسلم يوماً , وكيف يُعتبر اليهود جانحين للسلم بعد أن اغتصبوا الأرض وسفكوا الدماء وشرّدوا الأهل وأخرجوا الناس من ديارهم بغير حقٍ , وما مثَل اليهود من أهلنا في فلسطين إلا كمثل رجل اغتصب دارك واحتلها بأهله وأولاده وأتباعه بقوة السلاح وأخرجك وأهلك وعيالك منها وشرّدك في العراء وظللتَ أنت وعيالك تقاومه وتحاربه وتقاتله ويقاتلك كي تسترجعَ دارك وتستردّ حقك , وبعد مدة طالت من الزمن يطلب منك المصالحة على أن يترك لك حجرةً من الدار الكبيرة على أن تسالمه ولا تحاربه
فهل يُعدّ – يا أيها المجيزون للتطبيع – هذا المغتصب المصر على اغتصابه جانحاً للسلم في نظركم ؟ هل تعدُون هذا التطبيع مع العدو صلحاً شرعياً ؟ والعدو يعترف بأن الأرض التي اغتصبها بالحديد والنار وشرد الملايين من أهلها أصبحت ملكاً له وغدت حيفا وعكا واللد والرملة وبير السبع بل القدس نفسُها أرضاً إسرائيليةً
بعد هذا الاستعراض السريع لأحكام الصلح نقرر:
1-أن هذا الصلح الدائم الذي أُبرم مع اليهود هو صلحٌ باطلٌ بالإجماع لما سبق توضيح ذلك
2-هذا الصلح تنازل بموجبه الموقِّعون عليه عن جزءٍ من أرضِ المسلمين في فلسطين ؛ وأعلن من خلالها العدو أن القدس هي عاصمتهم الأبدية , وهي أرضٌ لها مكانةٌ خاصةٌ لا يفوقها فيها إلا أرضُ الحجاز؛ ففلسطين هي الأرض المباركة مهد الرسالات وبلاد الملاحم وأرض المحشر وبلاد القداسات ومسرى الرسول وأولى القبلتين وثالث الحرمين
وصلحٌ هذا شأنه في التنازل عن هذه الأرض صلحٌ باطل
3-إن الموقعين حتى الآن على هذا الصلح بالنيابة عن المسلمين ليس فيهم من تتوافر فيه شروط الإمام الشرعي بل هم معلنون للعلمانية أو الاشتراكية أو اللليبرالية
4-هذا التطبيع يجعل ولاية مطلقةً لليهود على جزء من مسلمي فلسطين , وكل عقد يَلزم منه ولايةٌ للكفار على المسلمين فهو باطلٌ محرمٌ شرعاً نهى الله عنه في آيات صريحة وواضحة قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾. المائدة 51. وقال تعالى : ( لَّا يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۖ) آل عمران 28
ومن خلال هذا العرض لمسألة التطبيع يتبين لنا أن التطبيع مع العدو هو جريمةٌ دينيةٌ وجريمة سياسيةٌ لا تغتفر؛ فهو اعترافٌ للكيان الصهيوني بحقه في الأرض العربية بفلسطين، وبحقه في بناء المستوطنات وحقه في تهجير الفلسطينيين وحقه في تدمير القرى والمدن العربية، وهذا التطبيع يفرض على الأمة العربية الاستسلام والرضا بأبشع مراتب المذلة والهوان والتنازل عن الكرامة وعن الحقوق بل هو رضاً وتشريعٌ لمجازر العدو الاإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام))(رواه الطبراني). وقال أيضاً : ((من أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع))(رواه ابن ماجه)
والحمد لله رب العالمين
أ.د أحمد القطان
المراجع
1-العماد , هدى , التطبيع مع العدوالاسرائيلي , مجلة جامعة ناصر, السنة (9)العدد(17) 2021
2-الإبراهيم , خالد, التطبيع والتطويع وأثرهما على الواقع الإسلامي , بحث تكميلي للماجستير 2021 جامعة صنعاء
3-عدوان , عدنان , التطبيع مع الكيان الصهيوني جريمة لا تغنفر, مجلة الوحدة الإسلامية, العدد172 السنة 2016
